American University of Beirut

​جلبير الأشقر

دشّنت الموجة الثوريّة التي اجتاحت البلدان العربية في العام 2011 – بدأت في تونس وامتدّت إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، فيما هزّت معظم البلدان الأخرى – مرحلة تاريخية من الاضطراب، تجلّت منذ ذلك الحين بحالة عميقة من انعدام الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المنطقة، التي شهدت حروباً أهلية في سوريا وليبيا واليمن، وسلسلة أزمات اقتصادية واحتجاجات اجتماعية، ثم موجة ثانية من الانتفاضات في العام 2019 في كلٍّ من السودان والجزائر والعراق ولبنان. إن ما يلي هو تقييم موجز للمواضيع المركزية المرتبطة بمعاينة هذا الاضطراب من منظور دراسات التنمية النقدية، يليه مسح ببليوغرافي للحقل ورسم تخطيطي لبرنامج بحثي.

حالة الحقل اليوم

إنّ دراسة مرحلة من الثورة الاجتماعية مثل سلسلة الأحداث التي بدأت في العام 2011 إثر قيام بائع تونسي متجوّل بإحراق نفسه يوم 17 كانون الأول 2010، والتي عُرِفت بتسمية "الربيع العربي"، تقدّم منظوراً استثنائياً وعدسة مُكبّرة لدراسة حالة التنمية في المنطقة. وتتطلّب دراسة فترة اضطراب تاريخية مثل هذه استخدام كافة فروع العلوم الاجتماعية وفق أفضل تقاليد دراسات التنمية بوصفها فرعاً علمياً مُتعدد التخصّصات. ففي حين نظرت غالبية التقييمات الأوّلية إلى أحداث الربيع العربي من منظور العلوم السياسية وحقلها الفرعي الخاص بـما يسمّى "الانتقال الديمقراطي"، سرعان ما اتضح أن الأحداث الإقليمية تنتمي في الحقيقة إلى فئة مختلفة، هي فئة الأزمات الثورية التاريخية. فقد كانت الأزمة الإقليمية اجتماعية حقاً بقدر ما كانت سياسية، إذ انطوت على مجموعة واسعة من المظالم، من ضمنها مظالم اجتماعية واقتصادية، وقضايا اللامساواة العمودية (بين الطبقات والفئات الاجتماعية)، والجندرية (على أساس الجندر أو النوع)، والأفقية (بين المجموعات المكوّنة ثقافيًا كاللامساواة الطائفية أو الإثنية أو العرقية).

هذا وقد شكّلت قضية اللامساواة الاجتماعية خطًا فاصلاً رئيسيًا بين المقاربات الدولية من منظور الفكر السائد ومقاربات الباحثين النقديين والباحثات النقديات في حقول دراسات التنمية والاقتصاد السياسي وغيرها من العلوم الاجتماعية. فإذا نظرنا إلى أبعد من التعبير عن الاضطراب باحتجاجات سياسية ضدّ شتى الأنظمة القمعية، أمكننا طرح السؤال الخلافي على النحو التالي: هل هي أساساً ثورة الطبقة الوسطى من أجل تحسين شروط المنافسة في السوق وحرية تأسيس المنشآت في منطقة تتّسم بمستوى منخفض من اللامساواة الاجتماعية، أم أنها على عكس ذلك ثورة شرائح اجتماعية فقيرة ومتوسّطة الدخل ضدّ الفقر ومستويات عظمى من اللامساواة ونقص الوظائف في القطاع الرسمي وانعدام الآفاق الاجتماعية؟

يرتبط بهذه المناقشة ارتباطاً وثيقاً تقييم الأثر الذي نتج في المنطقة العربية عن مجموعة التدابير التي يصنّفها الباحثون النقديون والباحثات النقديات تحت عنوان "النيوليبرالية"، وهو عنوان يشير إلى النموذج الاقتصادي الذي فرضته تدريجيًا المؤسسات المالية الدولية منذ الثمانينيات وجرى تلخيصه في العام 1989 تحت مسمّى "إجماع واشنطن" في صدد بلدان أميركا اللاتينية (وليامسون، 1990). ففي حين اعتبرت المؤسّسات المالية الدولية أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة العربية تنبع من الافتقار إلى قدر كافٍ من التحرير الاقتصادي، ودعت بالتالي منذ العام 2011 إلى تنفيذ مجموعة التدابير المكوّنة لـ"إجماع واشنطن" بشكل أكثر جذرية، اعتبر الباحثون النقديون والباحثات النقديات أن الإصلاحات المستوحاة من هذا النموذج هي من الأسباب الرئيسية للأزمة الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة العربية، وأنه لا بدّ بالتالي من استبدالها بسياسات تنموية جديدة، تكون الدولة والقطاع العام، لا السوق الخاصة، القوة الدافعة لها.

قراءات نقدية في الحقل

خلافاً للمؤسّسات المالية الدولية، قامت بعض المؤسّسات الدولية الأكثر تقدّمية والمنتمية إلى منظومة الأمم المتّحدة بتمهيد الطريق أمام مقاربة نقدية للاقتصاد السياسي في المنطقة العربية. وأبرز هذه المؤسسات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لا سيّما في سلسلة تقارير "التنمية البشرية العربية" الصادرة بين العامين 2002 و2009، وكذلك لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا (أونيكا). ويجد المنظور النقدي لقضايا التنمية تعبيراً عنه أيضاً في منشورات مراكز بحوث غير حكومية مثل مؤسّسة كارنيغي للسلام الدولي، ومؤسّسة فريدريش إيبرت، ومنتدى البحوث الاقتصادية في القاهرة. وحتّى في الأدبيات الصادرة عن المؤسّسات المالية الدولية ذاتها، يمكن إيجاد أصوات نقدية، يُعبّر عنها غالبًا في أوراق بحثية غير رسمية. وفي هذه الحالات الأخيرة، يكون النقد أكثر جذرية عندما يتعلّق بنظام تمت الإطاحة بحاكمه المركزي. كما يحصل أيضاً أن تتضمّن التقارير الرسمية للمؤسسّات المذكورة تقييمات نقدية مفيدة في صدد بعض جوانب الأنظمة الاقتصادية في المنطقة بعد انهيارها.

هذا وكان من الطبيعي أن يؤدّي "الربيع العربي" لعام 2011 إلى إنتاج كثيف من كتابات الباحثين النقديين والباحثات النقديات المخصّصة لتحليل الانتفاضات من منظور مستند كليًا أو جزئيًا إلى الاقتصاد السياسي ودراسات التنمية النقدية. وفيما يلي قائمة بالكتب الصادرة منذ العام 2011 والتي تنتمي إلى الفئة المذكورة، أما المقالات المنشورة في المجلّات الأكاديمية فلا يسعنا المجال هنا لإيراد قائمة بها لكثرتها.

كتب تركّز على دور الإصلاحات النيوليبرالية في إحداث الاضطراب: الأشقر، 2013؛ هنية، 2013؛ جرجس، 2014؛ حيدريان، 2014؛ صالح، 2014؛ طالاني، 2014؛ شالكرافت، 2016؛ قادري، 2016؛ سعيد، 2017؛ عايب وبوش، 2019؛ أولمستيد، 2020؛ رضوان، 2020؛ صعب، 2020؛ غلفين، 2021.

كتب تقيّم خصائص الدولة والاقتصاد في المنطقة العربية: الأشقر، 2013؛ هيرتوغ، لوتشياني وفاليري، 2013؛ غراورت وأبو المجد، 2016؛ هنية، 2018؛ ديوان ومالك وعطية، 2019؛ هينبوش وغاني، 2020؛ كامرافا، 2020؛ السيد، 2021.

كتب عن البلدان التي كانت مسرحًا للانتفاضات أو الاحتجاجات الشعبية من منظور تنموي نقدي. مصر: بوش وعايب، 2012 ؛ كوراني والمهدي، 2012؛ ألكسندر وبسيوني، 2014؛ عبد الرحمن، 2015؛ بينين، 2015؛ الأشقر، 2016؛ أبو المجد، 2017؛ عايب وبوش، 2019؛ صايغ، 2019؛ عدلي، 2020؛ ويبرت-فينر ووولف، 2020؛ براون، حطب وعدلي، 2021؛ سبرينغبورغ، 2021. سوريا: هينبوش وزينتل، 2015؛ مطر، 2016؛ هينبوش وعمادي، 2018؛ ضاهر، 2019؛ مطر وقادري، 2019؛ ودين، 2019. تونس: بينين، 2015؛ ريفيتي ودي بيري، 2016؛ يوسفي، 2018؛ عايب وبوش، 2019؛ ويبرت-فينر ووولف، 2020. اليمن: لاكنر، 2014؛ بريهوني والسرحان، 2015؛ لاكنر، 2017.

المراجع المذكورة أعلاه محصورة بالكتب الصادرة باللغة الإنكليزية، لأنّ هذه المذكّرة موجّهة إلى قراء لغتهم الوحيدة المُشتركة هي الإنكليزية، وقد صدر بعضها القليل بترجمة عربية. وهناك بالطبع مؤلّفات كثيرة صادرة أصلاً باللغة العربية أو بلغات أوروبية غير الإنكليزية تتناول المواضيع التي تم تناولها في هذه المذكّرة.

إلى أين نذهب من هنا؟

من منظور دراسات التنمية النقدية، يُعدُّ الاضطراب العربي نتيجة لأزمات هيكلية عميقة تفاقمت منذ أن تجسّدت سياسياً في العام 2011 وافتتحت مرحلة مديدة من انعدام الاستقرار، تخلّلتها انتفاضات وثورات وثورات مُضادة وحروب – وهي مكوّنات ما وُصِف بأنه سيرورة ثورية طويلة الأمد (الأشقر، 2013). بالتالي، فإن دراسة هذا الاضطراب التاريخي هي بالضرورة عملٌ جار غير مكتمل. وهو حقل عظيم الاتساع لأنّه يشمل منطقة ممتدّة على قارتين، وقد شهدت انتفاضات شعبيّة في نصف الدول المكوّنة لها - الجزائر والبحرين ومصر والعراق والأردن ولبنان وليبيا والسودان وسوريا وتونس واليمن. إن استكشاف المشاكل العديدة التي تؤثّر على تنمية المنطقة من زوايا متنوّعة كالنمو الاقتصادي والتحديث والتنمية البشرية والتحرّر الاجتماعي والجندري، كما بيّنتها الانتفاضات، لا يزال متفاوتًا للغاية بين مختلف البلدان المعنية، وفي مرحلة مُبكرة بالنسبة لبلدان الموجة الثورية الثانية. وتشمل الأسئلة التي تنبغي معالجتها ما يلي: كيف تحدث مشكلات مُماثلة تتعلّق بنقص النموّ الاقتصادي على الرغم من ظروف اقتصادية متباينة من حيث توفّر الموارد الطبيعية، ومستوى نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي، وحجم المنشآت، إلخ؟ بما يشترك وبما يختلف تأثير الإصلاحات المستوحاة من النموذج النيوليبرالي بين بلد وآخر؟ ما هو الدور الذي لعبته الحركة العمّالية في الإنتفاضات، لا سيّما في البلدان التي كانت الأبحاث عنها أقلّ مما عن تونس ومصر؟ ما الذي يحدّد الفرق في دور النساء في الانتفاضات المختلفة؟ إلى أي مدى تداخلت اللامساواة الأفقية، كالطائفية أو الإقليمية، مع اللامساواة العمودية، أي الاجتماعية؟ لدى معالجة مثل هذه الأسئلة، من المهمّ أن نبقي في اعتبارنا أن المنظور النقدي الحقيقي في العلوم الاجتماعية مستوحى من الالتزام بقيمة كانت ولا تزال مركزية في انتفاضات المنطقة، ألا وهي المساواة بين جميع المواطنين والمواطنات، سواء أكانت مساواة قانونية أم سياسية أم اجتماعية-اقتصادية.

جلبير الأشقر (تشرين الأول 2021)