
في ظلّ الحديث الدائر اليوم حول المصرف المركزي ومسؤوليته في توليد الأزمة النقدية والاقتصادية الراهنة، من حيث تمويله فساد الدولة، ثمة جانب غائب عن هذا النقاش، وتحديدًا في ما يتعلّق بهندسات المصرف للسوق العقارية. فقد ساهمت سياسات المصرف المركزي في إدراج الأرض ضمن منظومة الاقتصاد الريعي وغير المنتج، كما أدّت إلى التفريط بالحقّ في السكن. سنتطرق في هذا المقال إلى بعض وجوه هذه الهندسات ونتائجها ونطرح عددًا من الحلول الضرورية.
منذ تسعينات القرن الماضي، عمد مصرف لبنان إلى ربط القطاع المصرفي بالعقاري، متّبعًا بذلك منطقًا اقتصاديًا عنوانه تحفيز المصارف والمموّلين الأجانب على الاستثمار في مجال البناء والعقارات، وذلك لجذب الأموال الخارجية، مهما كان الثمن. وعليه، فتح المصرف المركزي باب المضاربة العقارية على مصراعيه، بحجّة الحفاظ على سعر صرف الليرة اللبنانية التي كانت بحاجة لتدفق تحويلات مالية من خارج البلد.
وبنتيجة التدفق الهائل لأموال المغتربين والأجانب، لا سيّما في ظلّ الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، عمد مصرف لبنان إلى تحويل فائض رأس المال إلى القطاع العقاري وذلك عبر هندسة سياسات مالية محفّزة للمطوّرين والمصارف على حدّ سواء. وتجسّدت هذه السياسات بتعميمات المصرف المركزي المتعلقة بتخفيض الالتزامات الخاضعة للاحتياطي الإلزامي في المصارف المانحة للقروض، وهي قد أقرّت عام 2001 ثمّ 2007 ثمّ 2009. يضاف إلى ذلك قرارات المصرف بشأن تصفية العقارات المستحوذة من القروض المتعثرة. فقد تمّ تمديد مهلة التصفية إلى خمسة سنوات (53/2004)، ثمّ إلى 20 سنة (تعميم 135 عام 2015)، مما حوّل المصارف إلى لاعب أساسي في المضاربة العقارية، وهو مؤشّر خطير لناحية ربط القطاع المالي وسلامته بالقطاع العقاري.
كما واكبت التحفيزات المالية تسهيلات للمطوّرين جاءت على هيئة قانون بناء معدّل (646/2004) صاغه المستثمرون والمطوّرون من داخل مجلس النواب والسلطة السياسية، وقد حمل لهم فرصة كسب أرباح إضافية عبر زيادة أجزاء الأبنية التي لا تدخل مساحتها في حساب عاملي الاستثمار العام والسطحي. وقد سبقه القانون 296/2001 الذي سهّل اكتساب غير اللبنانيين الحقوق العينية العقارية في لبنان، وذلك اجتذابًا للاستثمارات. وقد جاء في مقدّمة هذا القانون تأكيدٌ على حاجة الدولة "لإيجاد المزيد من الحوافز للمستثمرين من أجل الاستثمار في لبنان".
على أثر تشريع المضاربة العقارية وإباحتها للمصارف، تضاعفت الإستثمارات وشهدت الأسعار إرتفاعاً حاداً، وفق ما تظهره دراسة "تطوير بيروت بعد الحرب" للباحث برونو مارو.
مع هذا الارتفاع في الأسعار، أصبح معظم اللبنانيين عاجزين عن شراء مسكن لا سيّما في العاصمة بيروت. ولم ينعكس هذا الغلاء على شراء العقارات فحسب بل أيضًا على إيجارات الشقق، بحيث أصبح سعر إيجار غرفة في بيروت يعادل الحدّ الأدنى للأجور ويفوقه. ومع انخفاض القدرة الشرائية للسكان مقابل ارتفاع أسعار الشقق، عمد مصرف لبنان إلى دعم الطلب على الشقق عبر منح قروض سكنية للبنانيين، وذلك سعيًا منه لمنع انخفاض الأسعار عوضًا عن تعديلها لتتلاءم مع واقع العرض والطلب.
إن هذا التلاعب بالسوق العقارية كان لا بدّ له من الوصول إلى طريق مسدود، مع تحوّل الطفرة العقارية "الواعدة" إلى أزمة عقارية وسكنية صعب الخروج منها. ابتداءً من العام 2011، أخذ القطاع العقاري يتدهور، ما انعكس بالتراجع الحادّ لعدد رخص البناء المنفذة في بيروت الإدارية. وإذا ما نظرنا إلى حركة السوق العقارية الممثلة في الرسم البياني أعلاه عبر أعداد رخص البناء المنفذة منذ العام 1996 حتى 2018 (بيروت الإدارية)، والتي استحصلنا عليها من نقابة المهندسين، يتضح لنا حجم الأزمة العقارية التي يمرّ بها لبنان مع انحدار عدد الرخص الممنوحة بين عامي 2010 و2018 من 100 رخصة إلى 78، أي بنسبة 22%.
إلا أن التدهور السريع للسوق العقارية لم يحثّ المصرف المركزي على مراجعة منطقه الاقتصادي بل عمد إلى تبنّي السياسات والإجراءات نفسها التي أدّت إلى الأزمة. فسعى إلى حماية القطاع العقاري، كما المصرفي، من عواقب الأزمة الاقتصادية، رافعًا سقف القروض السكنية، في محاولة منه لمنع انخفاض الأسعار.
ولتدارك الأزمة العقارية وما يستتبعها من انخفاض في سعر صرف الليرة، شرع مصرف لبنان (عام 2013) إلى دعم نوع جديد من القروض بمبالغ طائلة يستهدف المغتربين والميسورين بشكلٍ خاص، ووصلت قيمة القرض الواحد إلى 500 ألف دولار، بالإضافة إلى قروض مخصّصة لشقق ما يسمى بالمباني الصديقة للبيئة. وبالرغم من تطور الضائقة الاقتصادية في العام 2018، أقدم المصرف على رفع هذه القيمة إلى 800 ألف دولار. لا تقتصر تقديمات مصرف لبنان إذًا على خلق طرق حالية لتأمين الإسكان الميسور التكلفة لمن يحتاجه من مقيمين ومحدودي الدخل وإنما يتعدّى ذلك إلى دعم شراء شقق فخمة في أبراج ومجمعات سكنية باذخة.
من هذا المنطلق، وعلى الرغم من الركود الاقتصادي التي شهدته السنوات الأخيرة، لم تنخفض أسعار الشقق بالشكل الذي كان متوقعًا. يشير ذلك إلى افتعال هذا الارتفاع في الأسعار، على نحو مناقض لمبدأ العرض والطلب الذي تدّعي الدولة اعتماده، وذلك حفاظًا على قيمة الأملاك العقارية للمصارف وأصحاب النفوذ، باعتبارها "العمود الفقري" للاقتصاد اللبناني.
لكن مساعي استثناء القطاع العقاري من الأزمة الاقتصادية لم يؤدِ إلى إيقافها، خصوصًا مع استنزاف الدولة لمواردها حتى أصبحت عاجزة عن دعم قروض الإسكان، مما أدّى إلى نشوء خلاف بين المصارف التجارية والمؤسسة العامة للإسكان عام 2014 بسبب تخلّف الأخيرة عن سداد مستحقات قروض الإسكان للمصارف. ومع اقتراح المؤسسة على المصارف شراء محفظتها من الديون بقيمتها الفعلية مضافةً إليها فوائد بنسبة 3%، استجابت الأخيرة بممارسة ضغوط على مؤسسة الإسكان في محاولة منها لشراء محفظة الديون بسعر أقلّ من قيمتها الفعلية. لذلك، يبدو سخاء المصرف المركزي في خطوته لإعادة إطلاق ملف القروض السكنية المدعومة (عام 2019) غير مقنعًا على الإطلاق. فمن جهة، تستنكر المصارف ارتفاع أسعار الفوائد ما يجعلها غير مشجّعة للمقترض، ومن جهة ثانية، تعتبر هذه الممارسة امتدادًا لمبدأ القروض الضخمة المدعومة والتي لا تخدم مصالح غالبية الناس.
وقد رافق تدهور القطاع العقاري عجزًا في ميزان المدفوعات مع هبوطٍ حادّ من حوالي 3324.5 مليون دولار عام 2010 إلى -5318.3 مليون عام 2019 (وفق أرقام المصرف المركزي) مسجلاً بذلك أعلى مستوى عجز في لبنان منذ الاستقلال.
ليس ذلك سوى نتيجة حتمية للنموذج الاقتصادي الريعي الذي اتّكأ بكل ثقله على القطاع العقاري القائم على الاستثمارات الخارجية والودائع المصرفية مع إهمال القطاعات الإنتاجية. فمع توقف ضخّ الاستثمارات الخارجية في القطاع العقاري، وقع الاقتصاد برمّته في العجز. وعلى الرغم من ذلك حافظت أسعار الشقق على ثبات نسبي ووصلت إلى أعلى مستوياتها في العام 2013.
باختصار، أرست الدولة اللبنانية، بسياساتها النقدية والمصرفية، معادلة اقتصادية طرفاها الحق في السكن مقابل الاستقرار المالي. فالحق في السكن الميسور لا يتعارض، بالمبدأ، مع استقرار الاقتصاد وازدهاره، بل على العكس من ذلك، إذ تظهر معظم المؤشرات أن الأشخاص الذين ينعمون بسكن ملائم هم مواطنون أكثر صحة وإنتاجية وفعالية اقتصادية. لكن تحوّل العقارات إلى ضمانة لسعر صرف الليرة، وهو بالضبط ما حصل في لبنان، يضع المواطنين أمام معضلة خطيرة تتمثّل بعدم إمكان حماية الاقتصاد دون رفع أسعار العقارات وحرمانهم من السكن اللائق والملائم.
ومع كلّ ذلك، فشلت الدولة اللبنانية في حماية الاقتصاد والليرة، لأنها أهملت كل قطاعاته الإنتاجية. وعليه، تقع على عاتق المواطن اللبناني اليوم مسؤولية تحمّل عواقب التدهور الاقتصادي الذي رسمت مساره، طوال عقود، سياسات الدولة ومن ضمنها القرارات الصادرة عن مصرف لبنان. ويجد هذا المواطن نفسه، للمرة الثانية، مجبرًا على تسديد فاتورة الاستقرار الاقتصادي. فهو قد دفع في الماضي ثمن الطفرة العقارية التي لم تكن ممكنة لولا التضحية بالدور الاجتماعي للمدينة والذي ينطوي على حق المواطنين في السكن والاستفادة من موارد المدينة.
أما اليوم فهو يدفع حقّه في السكن ثمنًا لإخفاق هذه السياسات النقدية الجائرة بحقه. وبالرغم من اندلاع الانتفاضة اللبنانية، تحت عناوين اقتصادية، لا زلنا نفتقد إلى لغة المطالبة بالحق في السكن على حساب أرباح المصارف وتراكم ثرواتها.
في سياق الواقع الاقتصادي المتردي الذي نعيشه اليوم، يتضح أن الانهيار الاقتصادي الحالي ليس وليد الفراغ أو مبدأ "العرض والطلب" حيث تقوّم "يد السوق السحرية" انحراف السوق. بل هو نتيجة السياسات النقدية المتعاقبة للمصرف المركزي ودوره التدخلي في كل القطاعات ولا سيما سوق العقارات.
ومع تخوّف اللبنانيين من خسارة قيمة ودائعهم المصرفية، يتّجه بعضهم اليوم إلى استثمار أمواله في القطاع العقاري، ما يسهم في تعزيز الأزمة الاقتصادية وإعادة إنتاج أسبابها. أما عكس هذا المسار، الذي يهمل القيمة الاجتماعية للأرض وحق الناس في السكن، فيستلزم وضع سياسات مالية وإسكانية عادلة، منها قانون إيجارات لائق وقانون السكن الدامج الذي يفرض نسبة من الشقق لذوي الدخل المحدود على أي مشروع تطوير عقاري. هذا بالإضافة إلى إقرار ضريبة على الشقق الشاغرة، وتشجيع التعاونيات السكنية عوضًا عن القروض المدعومة التي من شأنها مراكمة الديون على كاهل المواطنين.
■■■
هذا التقرير هو جزء من مشروع بحثي أعدّه "مختبر المدن بيروت" وبرنامج العدالة الاجتماعية والمدينة في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت بعنوان "قاعدة بيانات مباني بيروت" تمّ خلاله مسح معلومات هندسية وبيئية واجتماعية واقتصادية عن معظم مباني بيروت السكنية المشيّدة منذ العام 1996.
■"مختبر المدن بيروت" هو مركز بحثي يهتم بتطوير معرفة علمية مبنية على توثيق وتحليل التحوّلات المدينية التي يشهدها لبنان، بهدف خلق ظروف حضرية ومعيشية منصفة ومستدامة. وانطلاقا من إيماننا بضرورة مشاركة المعرفة لكي يتمّ استخدامها والبناء عليها من قبل باحثين وناشطين ومعنيين آخرين بالشأن المديني، سنقوم بنشر النتائج التي توصّلنا إليها ضمن سلسة تقارير.