في 28 آذار (مارس) 2022، اجتمع وزراء خارجية إسرائيل والولايات المتّحدة ومصر والبحرين والمغرب والإمارات العربية المتّحدة في سديه بوكير - اختير هذا المكان نظراً إلى رمزيته كونه كان المقرّ الأخير لديفيد بو غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل - وقد ركّزت قمّة النقب على التعاون الاقتصادي والسياسي وشدّدت على مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة.
في السياق، ردّد بعض المشاركين الكلام نفسه عن مواجهة الاستعمار الإسرائيلي المُستمرّ لفلسطين من دون أن يذكر أحد منهم أمراً جوهرياً في هذا الشأن، لا بل اتفق الجميع على إضفاء الطابع الرسمي على شراكاتهم، من خلال تنظيم منتدى دوري تستضيفه البلدان الأعضاء، ومن ضمنها الأردن التي لم تكن حاضرة في القمّة.
كان الاجتماع رمزياً، إذ جرت الدعوة إليه على عجل ليتزامن مع زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين، وهدف إلى إظهار الاندماج الإقليمي المستمرّ لأقرب حلفاء الولايات المتّحدة في المنطقة. نُظِّمت هذه العملية - التي تركّزت على إسرائيل - في الأشهر الأخيرة من رئاسة ترامب بشكل رئيسي، عبر توقيع العديد من اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
يُبيّن غياب السودان عن القمّة كلّاً من الصراعات الاجتماعية الداخلية في البلاد والخيار البديل للتطبيع. تمثّل صفقات الدول الأخرى مع إسرائيل اعترافًا رسميًا بمسار طويل من التعاون والعلاقات السياسية والاقتصادية شبه الرسمية، في حين جرى ابتزاز السودان للتوقيع على اتفاقية التطبيع في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها وإزالتها عن القائمة الأميركية "للدول الراعية للإرهاب".
أخيرًا، على الرغم من عدم توقيع المملكة العربية السعودية أي اتفاقية تطبيع - الأرجح بسبب العواقب السياسية لموقف مماثل في العالم الإسلامي – إلّا أنها تستمرّ في الحفاظ على علاقاتها مع إسرائيل.
الغاز الطبيعي والاندماج الإقليمي
احتلّت قمّة النقب والعلاقات الدبلوماسية المُتزايدة عناوين الأخبار، مع ذلك لم يولِ المراسلون اهتمامًا بالطرق التي تعطي بها هذه الدول بعداً مادياً لعملية التطبيع من خلال الصفقات التجارية، ومشاريع البنية التحتية المشتركة، وانتقال الأشخاص. كذلك تُرِكت عمليّات الاندماج طويلة المدى بعيدًا عن الأنظار من خلال التركيز على البيانات العامّة عن التقارب بين الدول المعنية. يُعدُّ الغاز الطبيعي من السلع المهمّة في هذه القضية، وقد استُخدم لعقود كمسرّع أساسي في عملية اندماج إسرائيل إقليمياً.
اتخذت عملية الاندماج أشكالاً عدّة منذ توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في العام 1979 تحت رعاية الولايات المتحدة. يُعتبر إنشاء المناطق الصناعية المؤهّلة في مصر أحَدِها. مُنحت الشركات العاملة في هذه المناطق الصناعية إعفاءات ضريبية على صادراتها إلى الولايات المتّحدة شرط أن تتضمّن عملية إنتاجها 11.7% من السلع الإسرائيلية المستوردة[1]. اتُبِع النهج نفسه في الأردن بعد توقيع معاهدة السلام في العام 1994. ويبرز مثال آخر أكثر جدّة وهو التعاون المستمرّ بين إسرائيل ومصر في فرض الحصار القاتل على قطاع غزة.
لطالما كان الغاز محوريًا في قضية التطبيع الإقليمي. تميّز التقارب بين مصر وإسرائيل بتصدير الغاز المصري - بأقل من قيمته السوقية - إلى الجارة الشمالية، واستمرّ هذا الوضع حتى اندلاع الثورة المصرية في العام 2011، التي أدّت إلى تكرار عمليّات تخريب خطّ نقل الغاز وتعرّضه للتفجير عشرات المرّات. قيل الكثير عن هذه الهجمات بوصفها أمثلة عن الإرهاب المُتنامي في منطقة سيناء، ولكنّها سلّطت الضوء على الطبيعة غير الشعبية لصفقة الغاز ودعم المصريين المستمرّ لتحرير فلسطين. تجلّى هذا الشعور أكثر عندما كسر المتظاهرون المصريون الحصار المفروض على غزة واحتلّوا السفارة الإسرائيلية في القاهرة. يشير نقص الغاز في مصر إلى عدم استئناف التصدير، لكن بدلاً من ذلك، تدفّق الغاز الطبيعي، لسنوات عدِّة مستمرّة حتى الآن، في الاتجاه المعاكس، أي من إسرائيل إلى مصر.
منذ اكتشاف الغاز الطبيعي قبالة سواحل قطاع غزة في العام 1999 – حظرت اسرائيل استخراجه – أصبح التنقيب عن الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسّط مهمًا بشكل متزايد، ودعمت كلٌّ من إسرائيل ومصر وتركيا ولبنان واليونان وقبرص مهمّات استكشاف الغاز في مياهها الإقليمية - المُتنازع عليها في كثير من الأحيان. بين العامين 2009 و2013، اكتُشِف عدد من حقول الغاز المهمّة قبالة سواحل إسرائيل، وهي تضمّ في المجمل نحو 600 مليار قدم مكعب من الاحتياطيات المؤكّدة. بحلول العام 2014، بلغ الإنتاج الإسرائيلي السنوي نحو 7.5 مليار متر مكعب، فيما تبلغ إيرادات الدولة حالياً (الإتاوات التي تدفعها الشركات الخاصة المشغّلة للاحتياطيات) من الغاز الطبيعي نحو 1.25 مليار شيكل (0.38 مليار دولار أميركي)، وينتج أكبر حقلي غاز - ليفياتان وتامار – نحو 10.81 مليار متر مكعب و8.69 مليار متر مكعب على التوالي.
الاندماج بقيادة الدولة
ركّزت إسرائيل على تصدير فائض الغاز إلى جيرانها (استخدامه الأساسي هو للاستهلاك المحلّي). في العام 2016، وقّعت شركة Noble Energy صفقة تصدير بقيمة 10.5 مليار دولار مع شركة الكهرباء الوطنية (NEPC) في الأردن المملوكة من الدولة. ومن ثمّ وقّعت بعد عام إلى جانب شركة Delek Drilling صفقة مماثلة مع شركة Dolphinus Holdings المصرية بقيمة 15 مليار دولار، بحيث عُكِس مسار خطّ الأنابيب الحالي، الذي كان يعمل سابقاً لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، ليسمح بتدفّق الغاز من إسرائيل إلى مصر. تتمثّل استراتيجية مصر، خصوصاً بعد اكتشاف احتياطياتها الخاصّة (مثل حقل ظهر للغاز)، في أن تصبح مركزًا إقليميًا لتسييل الغاز الطبيعي وتصديره.
على الرغم من أن الصفقات أُبرِمت بين شركات من الناحية النظرية، إلّا أن الدول المعنية كانت منخرطة بها بشدّة. حاول المسؤولون في الأردن الاختباء خلف الشركات المسؤولة عن استخراج الغاز وتصديره، إلّا أنّ الناشطين سلّطوا الضوء على الدور المباشر للدولة في تسهيل الاتفاق مع إسرائيل. فالشركة الأكبر المتورّطة في هذه الصفقة، أي NEPC، مملوكة من الدولة. إلى ذلك، كانت "الشركات الخاصة" المعنية بهذه الصفقات في مصر مجرّد امتداد للدولة. على سبيل المثال، كشف موقع مدى مصر، أنّ East Gas – الشركة المصرية التي لديها حصّة في ملكيّة خطّ الأنابيب الذي يربط البلاد بإسرائيل - مملوكة بغالبيتها من جهاز الاستخبارات المصرية.
في وقت سابق من هذا العام، أُبرِمت إتفاقية لزيادة صادرات الغاز من إسرائيل إلى مصر مروراً بالأردن. عارض الشعب الأردني الصفقة، مستمرّاً في رفض التطبيع مع إسرائيل، ومتمسّكاً بدعمه لتحرير فلسطين. كانت طبيعة هذه الاتفاقية - من دولة إلى دولة - أكثر وضوحًا خلال العملية، وهو ما يبيّن ثقة النظام المصري الواضحة (من بين آخرين) في الاعتراف علنًا بالتطبيع مع إسرائيل.
يُعطي خَطّيْ الأنابيب، اللذين يربطان إسرائيل بمصر والأردن، طابعًا ماديًا مباشرًا لعملية الاندماج الإقليمي، لا لأنهما يربطان إسرائيل بجيرانها فحسب، بل لأنهما يدمجانها أيضاً في البنية التحتية الأوسع لخطّ أنابيب الغاز العربي. وهو ما يعني في الواقع أنّ إسرائيل، من خلال صادراتها من الغاز، مُرتبطة أيضًا بشكل مباشر بلبنان وسوريا، ولديها إمكانية الارتباط بدول أخرى في المنطقة عند توسيع شبكة الأنابيب.
الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا
أثيرت مسألة توصيل الغاز إلى أوروبا كثيراً. في الآونة الأخيرة، جرت مناقشة هذا الاحتمال في سياق الحرب على أوكرانيا من أجل الحدّ من اعتماد الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي. طُرِحت هذه الخطط مراراً وتكراراً، وأدّت إلى تشكيل منتدى غاز شرق المتوسّط (EMGF)، الذي يضمّ الأردن ومصر وإسرائيل واليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا وحتّى السلطة الفلسطينية، ويعطي كلّ من الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي موقع المراقب.
مع ذلك، على الرغم من الاهتمام والضجّة اللذين يحيطان بهذه المسألة، لا تزال الفكرة نظرية في أحسن الأحوال. من ناحية، تعتبر كمّيات الغاز المُتاحة للتصدير هزيلة مقارنة بالصادرات الروسية التي يعتمد عليها الاتحاد الأوروبي. ومن ناحية أخرى، إنّ الوسائل المُقترحة لربط حقل الغاز الإسرائيلي، سواء بقبرص أو اليونان أو تركيا، تتطلّب إنشاء خطوط أنابيب بحرية طويلة ومكلفة، وحلّ النزاعات الإقليمية الرئيسية على الحدود البحرية بين الدول المختلفة.
والأهم ربّما من إمكانية التصدير الفعّال إلى أوروبا، هو الاندماج الإضافي لإسرائيل في الشبكات الإقليمية، والذي يتمحور حول صادراتها من الغاز الطبيعي. حتّى الحلفاء المفترضون للشعب الفلسطيني، مثل تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان، مستعدون لوضع معارضتهم للصهيونية جانباً من أجل الحصول على حصّة من غاز شرق البحر المتوسّط.
الإمارات العربية المتّحدة
حتى لا يجري إهمالها، أصبحت الإمارات العربية المتّحدة أيضاً، وبشكل متزايد، مشاركًا نشطًا في هذه العملية. في كانون الأول (ديسمبر)، على سبيل المثال، أعلنت وزارة الطاقة الإسرائيلية موافقتها النهائية على نقل العمليات في حقليْ غاز إسرائيليين من Delek Drilling إلى شركتين تابعتين لـ"مبادلة بتروليوم" المقيمة في أبو ظبي. ووصفت الوزارة هذه الصفقة بأنها "تفتح باباً للتعاون مع الشركات التي تجنّبت في الماضي العمل في إسرائيل لأسباب جيوسياسية"، وأشارت أيضاً إلى أن مبادلة بتروليوم "سوف تفتح فرعًا محليًا في إسرائيل، وتوسّع أنشطتها في مجالات الطاقة بما فيها الطاقة المتجدّدة، وفي مجالات الصناعة والابتكار الأخرى".
في الواقع، بعد توقيع إتفاقية التطبيع بين الإمارات العربية المتّحدة وإسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، نشرت الولايات المتّحدة والإمارات العربية المتّحدة وإسرائيل "بيانًا مشتركًا عن وضع رؤية استراتيجية لشراكة الطاقة"، وأعلن البيان عن "تنسيق أكبر في قطاع الطاقة، بما فيه الطاقة المتجدّدة، وكفاءة الطاقة، والنفط، وموارد الغاز الطبيعي والتقنيات المرتبطة به، وتقنيات تحلية المياه".
الخطوة الأولى في هذه العملية كانت الاتفاق - الذي حُظِر الآن بسبب المخاوف البيئية التي أثارتها التعبئة الاجتماعية - بين البلدين لمنح الناقلات الإماراتية حقّ الوصول إلى خطّ أنابيب إيلات-عسقلان، الذي تديره شركة "خطّ أنابيب أوروبا – آسيا" (EAPC) المملوكة من إسرائيل. هذه الصفقة كانت سوف تسمح للإمارات العربية المتّحدة بتفادي العبور عبر قناة السويس، وبالتالي زيادة سرعة وكمّية صادراتها إلى أوروبا. قُدِّرت قيمة الصفقة بنحو 700 إلى 800 مليون دولار أميركي. أمّا شركة EAPC، إسوة بخطّ الأنابيب بين إسرائيل ومصر، لديها تاريخ طويل من الاندماج الإقليمي مع الخليج تحت إشراف الولايات المتّحدة، فهي تأسّست في الأساس لتسهيل استيراد إسرائيل لنفط إيران، التي كانت لا تزال تحت حكم الشاه، وبالتالي تجاوز المقاطعة العربية.
مؤشر آخر، أكثر حداثة، على النشاط المُتزايد للإمارات العربية المتّحدة في سياسات الطاقة في المنطقة هو الإعلان عن صفقة بواسطة إماراتية بين إسرائيل والأردن، والتي سوف تشهد على تبادل المياه المُحلّاة من إسرائيل مقابل الطاقة الشمسية من الأردن. سوف تطوّر شركة "مصدر" المملوكة من الدولة الإماراتية، منشآت الطاقة الشمسية اللازمة لإنجاز الصفقة، ومن المتوقّع أن تبلغ قيمة صادراتها المستقبلية إلى إسرائيل نحو 180 مليون دولار سنويًا.
أخيرًا، يظهر التأثير الإماراتي أيضًا من خلال الموظّفين المشاركين في إدارة البنية التحتية للغاز في شرق البحر الأبيض المتوسّط. على سبيل المثال، عبد الحميد حمدي، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة "غاز شرق المتوسّط المصرية" (خط أنابيب العريش-عسقلان) هو مدير العمليّات السابق لشركة "بترول أبوظبي الوطنية". كذلك شارك محمد طلعت خليفة، أحد مؤسّسي شركة Dolphinus، في تأسيس الشركة المصرية التابعة لمجموعة رويال، التي تدير محفظة استثمارات الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان في الإمارات العربيّة المتحّدة. وهناك أيضاً جمال الصرايرة، وزير أردني سابق، ورئيس مجلس إدارة كلّ من شركة "بروم الأردن" وشركة "البوتاس العربية" - اللتين تستوردان الغاز الإسرائيلي - وقد عمل سابقًا مستشاراً أول لشركة Reliance Globalcom في دبي، ومديرًا عامًا لمكتب "أرامكو" السعودية في الأردن ولبنان وسوريا وتركيا.
تظهر الصورة أكثر وضوحاً الآن. يعمل الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسّط كمزلّق لاندماج إسرائيل إقليمياً، إذ يربطها سياسياً واقتصادياً ومن حيث البنية التحتية بباقي المنطقة، ويعمل كأداة فعّالة لتجذير مسار التطبيع مع جيرانها. هذه العملية، التي تتمّ تحت رعاية الولايات المتّحدة، تسلّط الضوء على الطرق التي تعتمدها الطبقات الحاكمة الإقليمية لترسيخ علاقاتها بشكل مُتزايد ومتوازي مع إسرائيل والخليج.
مع ذلك، تثير هذه الصورة احتمالًا مختلفًا تمّ إثباته في الممارسة العملية في كلّ من مصر والأردن. كلّما طبّعت الأنظمة في جميع أنحاء المنطقة علاقاتها مع إسرائيل بشكل علني، وكلّما استمرّت عمليّات الاندماج الاقتصادي، زادت إمكانات بروز حركات شعبيّة في تلك البلدان للضغط على حكوماتها وعلى إسرائيل. على سبيل المثال، تقدّم حملة "غاز العدو احتلال" الأردنية برهاناً عملياً عن مطالبة الوقف الفوري لصفقات الغاز بين البلدين تضامناً مع الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل التحرير. إن التعبئة ضدّ النظام الأردني (أو أي نظام إقليمي آخر) والمشروع الإسرائيلي الاستعماري في فلسطين هما جانبان من صراع واحد.